قصر البيكاديللي، مسرحٌ عريقٌ شاهدٌ على لحظات لا تنسى من تاريخ الفن اللبناني، شكّل علامة فارقة في المشهد الثقافي اللبناني والعربي، وهو من أبرز المعالم الفنية في قلب بيروت. افتُتح عام 1967 ليكون منارة للفن والإبداع وصرحًا ثقافيًا يحتضن أجمل اللحظات في تاريخ الفن اللبناني والعالمي. على خشبته، تألقت أعمال خالدة لفيروز والأخوين رحباني، كما استقبل عروضًا عالمية راقية، من بينها الحفلة الأسطورية لداليدا عام 1972، إضافة إلى عروض الباليه الروسي وغيرها من الفرق الفنية العالمية، ما جعل منه منبرًا للتبادل الثقافي ومركزًا للإشعاع الفني في المنطقة آنذاك.
لم يتميز قصر البيكاديللي فقط بجوهره الفني، بل بجمال تصميمه الفخم، إذ كان قادراً على استيعاب حوالي 780 متفرجًا، مما جعل منه صرحًا يعج بالحياة والحركة الثقافية. في عام 2000، تعرض هذا المعلم الثقافي لحريق أتى على جزء من هيكله، ليتوقف نشاطه، إلا أن الأمل في إعادة إحياء هذا الصرح العريق لم ينقطع، إذ توجد اليوم مبادرات ترمي إلى ترميمه وإعادته إلى الحياة الثقافية اللبنانية.
من بين اللحظات التي بقيت خالدة في وجدان كل من عاشها، تلك التي انقطع فيها التيار الكهربائي أثناء عرضٍ لفيروز، لكنها لم تتوقف عن الغناء، بل تابعت بصوتها الملائكي وسط وهج الشموع الخافت، فيما كان عاصي الرحباني يعزف على البزق بإحساس عميق. لحظة استثنائية، تجلى فيها سحر الفن حين تحدى الظلام بالنور والموسيقى، لتظل محفورة في الذاكرة كلوحة لا يمحوها الزمن.
أما الحفلة الشهيرة التي أحيتها داليدا عام 1972، فكانت محطة بارزة في تاريخ المسرح، إذ شهدت أولى عروضها في الشرق الأوسط على خشبته. وسط التصفيق الحار من الجمهور، عبّرت عن فرحتها بنجاح الحفل قائلة: “بيروت.. أحبك”، في لحظة مؤثرة جسّدت عمق تفاعلها مع المدينة وجمهورها.
كما احتضن قصر البيكاديللي مسرحيات الأخوين رحباني مع فيروز، من بينها “هالة والملك” (1967) و”جبال الصوان” (1969)، و”صح النوم” (1970)، و”يعيش يعيش” (1971)، وصولاً إلى “بترا” (1978)، بالإضافة إلى عروض فنية عالمية شهيرة مثل “باليه البولشوي” و”الكوميدي فرانسيز”، فضلًا عن الاستضافات المميزة لفرق موسيقية عالمية ومحلية، مثل فرقة عبد الحليم كركلا، وشارل أزنافور، وماجدة الرومي، وميراي ماتيو.
ولم يقتصر قصر البيكاديللي على العروض المسرحية فقط، بل كان أيضًا مكانًا لعرض الأفلام السينمائية الرائعة، حيث عرض فيه أفلام بارزة مثل فيلم “Doctor Zhivago”، الذي كان أول عرض له في بيروت، ليظل هذا المكان حاضنًا للثقافة والفن في كل أبعاده.
يبقى مسرح البيكادلي في بيروت رمزاً ثقافياً مهماً وملاذاً للفن والإبداع. ورغم التحديات التي مرّ بها، فإنه لا يزال يحمل في طياته إرثاً تاريخياً وفنياً يستحق الحفاظ عليه. نأمل أن تُولي وزارة الثقافة اهتماماً أكبر بهذا الصرح الفني العريق، وأن تسعى جاهدة لترميمه وإعادته إلى رونقه السابق، كي يواصل دوره في إثراء المشهد الثقافي اللبناني. إن ترميم مسرح البيكادلي ليس مجرد إعادة بناء مبنى، بل هو استثمار في تاريخنا الفني والثقافي للأجيال القادمة.